١٧/٣/٢٠٠٩
أَخْطَاْءُ التَّقْلِيْدِيِّيْنَ
ا-تَصَوُّرَاتُ التَّقْلِيْدِيِّينَ:
إِنَّ القياداتِ المسيحيَّةِ التقليديَّةِ تَعْتَبِرُ أَنَّ الغَرْبَ مُلْزَمٌ بِها مِنْ دون شُروط، ومِنْ دُوْنِ تَفْسيرٍ مِنَ ناحِيَتِها لَمَا تَبْغي ولَمَا تُريد. فَعَلَى الغَرْبِ أَنْ يَفْهَم تَمَنِّياتِها، ولو بِالوَمَا. وعَلَيْهِ أَنْ يُلبّي طَلَباتِها وإِنْ مَكَثَتْ غائِمَةً في العُلَى، أو جَاْئِحَةً(١) في سَتِيْرٍ(٢) مَسْلوبٍ.
حانَ الوَقْتُ كي تَعِيَ هذه القيادات ما هو المَضْمُوْن الفِعْلِيُّ للعلاقاتِ بين الدُّوَلِ، وأَوَّلُ لَبِنَة(٣) في هذا المضمار، التَّفسيرُ الواضِحُ والجَلِيُّ من الفريقِ المُتَظَلِّمِ لما يَدورُ في خَلَدِهِ، وما هو تَصَوُّرهُ للحلِّ المُرْتَجى.
أَمَّا هذه القياداتُ السائِغَةُ(٤)، فهي تَنْحُو إِلى الاعتقادِ أَنَّ الفريقَ الغربيَّ عليه أَن يَفْطِنَ إِلى ما يَعْتَلِجُ في صدرِهَا بسببِ الانتماءِ المشتَرَكِ لدينٍ واحدٍ. وهؤلاءُ مُخطئون في التَّحليلِ لأَنَّ الانتماءَ إِلى ذاتِ الأُفُقِ الطائِفِيِّ لا يَجْعَلُ من أَهْلِ أَوْروبا وأميركا يكتشفون ما في ذِ هْنِ الجماعاتِ المُطَالِبَة.
ومِنْ ناحيةٍ ثانيةٍ، يَعْلُنُ المسؤولون المسيحيُّون، وعلى عَكْسِ ما يَضْمُرون، أَنَّ المحادثاتِ مع الطَّرف الأَوروبي أَوِ الأَميركي، لا علاقَةُ لها بأَيِّ مَطْلَبٍ ذو طبيعة دينيَّة أَوْ طائفيَّة. فَهُمْ يَتَمَنُّون الشيءَ ويُصَرِّحون عَكْسَهُ. وفي توجُّهِهِمِ الدَّاخليِّ يقولونَ إِنَّ لا مَطْلَبَ لَهُم من ضمن الأُفُقِ الدينيِّ، ولَكِنْ في مجالسِهم الخاصَّةِ، يَنْتَقِدُوْنَ الدُّوَلَ الغربيَّة لِعَدَمِ تَحَرُّكِها وِفْقَ هذا المنظور.
٢-الإِشْكَالِيَّةُ التَّقليديَّةُ:
إِنَّ هذه السياسة المُبَطَّنَة تَقُودُ إلى خَلَلٍ في القاعدةِ المسيحيَّةِ التي تَضيعُ في مَتاهَةِ العَلاقَةِ مَعَ الغَرْبِ، أَو يُصْبِحُ لديها ردّة فعلٍ مناوِئَة لأَميركا وأَوروبا، وهو ما يَسْعَى إليه أخصامُ التَّقارُبِ بين مسيحيِّي الشَّرقِ ومسيحيِّي الغربِ.
إِنَّ القِيَادَاتِ التقليديَّةِ تَحْمِلُ عُقْدَةَ نَقْصٍ في موضوعِ العلاقاتِ الشَّرقيَّةِ والغَرْبِيَّةِ لأَنَّها تَخَافُ أن تُتَّهَمَ بالتَّقَرُّبِ من الغَرْبِ بصفته المسيحيَّة، فَتَعْلِنُ رَفْضَهَا لأَيِّ تَعَاوُنٍ في هذا الاتِّجاه، بل قد تُزَايِدُ في هذا المَجال، مُهَاجِمَةً الغَرْبَ بِشَرَاْسَةٍ لِتُظْهِرَ نَفْسَها غير مُتَوَاثِقَة معهُ، ولِتُبْعِدَ عَنْها ما تَعْتَقِدُهُ شُبْهَةَ التواطؤ في مشاريعَ تُسَمَّى تارَةً استعماريَّة، وتارَةً للهيمنة.
٣-التَّوَجُّهُ المَطْلُوْبُ:
على القياداتِ التقليديَّةِ أَنْ تَعيَ أَنَّ التواصُلَ بين الشَّرْقِ المسيحيِّ وبين الغَرْبِ المسيحيِّ حَالَةٌ طبيعيَّةٌ ومطلوبةٌ بإِلحاحٍ، إنْ مِنَ القاعِدَةِ المسيحيَّةِ في الشَّرْقِ، أو مِنَ القاعدة المسيحيَّةِ في الغَرْبِ. وكُلُّمَا سَارَ المسؤولونَ في هذا الاِتِّجاه سيلاقونَ ارتياحًا من الجماهيرَ الشَّرقيَّةِ ومِنَ الجماهيرَ الغربيَّةِ.
٤. أسبابُ الانفصالِ الفَوْقِيِّ:
إِنَّ القوى التي تُنَاهِضُ التَّقارُبَ الشَّرْقِيَّ والغَرْبِيَّ مؤلَّفة من بعض الأكّاديميِّين المتأثّرين بنظريَّةٍ تَقول: إِنَّ الديانةَ تَقِفُ عند بابِ الكنيسةِ، أَمَّا الباقي فهو وَطَنِيٌّ مَحْضٌ. وهذه النظريَّة ظَهَرَت نَتِيْجَة الصِّراعاتِ الماضيةِ بين البابا والإمبراطور، أَوْ بين البابا ومُلُوْكِ أَوْروبا. فجاءَ بَعْضُ المفكّرين وطالبوا بِفَصْلِ كلّ ما هو ديني عن ما هو وطني، وذلك لإِضعاف تأْثير الباباوات الزَّمني على السُّلطاتِ الوطنِيَّةِ.
إِلاَّ أنَّ فَصْلَ الموضوعِ الزَّمني عَنْ سُلْطَة الباباوات لا يَعني إِخراجَ الإحْسَاسِ الدينيِّ عن ذِهْنِ الجماعَةِ الدينيَّةِ، بل إِنَّ هذا الشعور يبقى بكامِلِ قُوَّتِهِ، يُرَصْرِصُ تفاعُلَهُ في الذِّهْنِ الجَماعِيِّ، وفي الذِّهْنِ التَّاريخيِّ. فالحِسُّ الدينيُّ هُوَ بُرْعُمُ الإِحْسَاسِ القَوْمِيِّ، وهو أَساسُ الإِحساسِ الطَّائِفِيِّ ذو التَّرَسُّبِ القَوْمِيِّ. وإِذا كان البَعْضُ يَتَعالى عن هذا الموضوع، فهو يُخْرِجُهُ من تَصَوُّرِهِ الواعي، لَكِنَّهُ يَسْتَظِلُّهُ في نِصْفِ وَعْيِهِ، وفي لاوَعْيِهِ. والإِحْسَاسُ الطَّائِفِيُّ ذو الطبيعَةِ القَوْمِيَّةِ يَتَحَكَّمُ بِذِهْنِ الجماهير التي تَبْقَى مُنْغَمِسَةً بكامِلِ مَلاءَتِها في النَّفَسِ الدِّيْنِيِّ-القَوْمِيِّ، وذلك بالرَّغْمِ من التَّنْظِيْرَاتِ المُخَالِفَة التي لم تتمكَّنْ مُنْذُ مِئَاتٍ السِّنين من فَكِّ عُرْوَةٍ واحِدَةٍ مِنَ الإِحساسِ الدينيِّ-الاجتماعيِّ.
٥-النَّهْجُ القَوْمِيُّ-الدِّينِيُّ:
لذا، على القياداتِ التقليديَّةِ أَنْ تُعِيْدَ النَّظَرَ في اعتقاداتِها السِّياسِيَّةِ، وتَبْدَأَ بِتَصَوُّرِ الحُلُوْلِ السِّيَاسِيَّةِ للمُعْضِلاتِ وِفْقَ نَهْجِ تمازُجِ الحِسِّ القَوميِّ والحِسِّ الدِّيْنِيِّ. وليس على هذه القياداتِ أَن تَعْتَقِدَ أَنَّها تَعودُ إِلى الوراءِ في العِلْمِ السِّياسيِّ لأنَّ مَنْ سَبَقَها قَدْ أَخْطأَ في التَّحليلِ فأدَّتْ حُلُوْلُهُ إِلى مَصَائِبَ وكوارِثَ لِكَوْنِها ابتَعَدَتْ عَنْ طبيعَةِ الكائِنِ الاجتماعِيِّ، وَتَوَغَّلَتْ في سَرادِيْبَ العُكوسَاتِ(٥) القَوْمِيَّةِ. فَدَخَلْنا في أُفُقٍ لا يَنْتَهي من مُضَادَّاتٍ ومُوَاجَهاتٍ كُنَّا بالغِنَى عَنْها لَوْ سِرْنَا في الطَّريقِ الواسِعَةِ والواضِحَةِ للتَّفاعُلِ التَّاريخيِّ القَوْمِيِّ-الدِّيْنِيِّ.
إِنَّ العودَةَ للبَحْثِ عَنِ الحُلول السِّيَاسِيَّةِ للمُعْضِلاتِ المُجْتَمَعِيَّةِ وِفْقَ المَنْظُور القَوْمِيِّ-الدِّيْنِيِّ سَيُسَاعِدُ على حَلْحَلَةِ السَّاحَةِ الدَّوْلِيَّةِ من مُشْكِلاَتٍ تَرَاكَمَتْ عَبْرَ السِّنينَ وأَوْصَلَتِ العَالَم إِلى مُوَاجَهاتٍ عَميقَةٍ تُشَكِّلُ خَطَرًا دَاهِمًا على مُتَعَرِّجَاتِ السَّلامِ الإِقليميِّ والدَّوْلِيِّ.
* * *
حاشِيَةٌ:
(ا) جَائِحَةٌ: مَائِلَةٌ.
(٢) سَتيرٌ: مَسْتُوْرٌ.
(٢) لَبِْنَةٌ: واحِدَةُ اللَّبِنِ. (المضروبُ من الطِّيْنِ لِلْبِناءِ). والمعنى هُنا العَتَبَةُ الأُوْلَى من بِنَاءِ التَّواصُلِ والتَّفَاهُمِ على مُسْتَوَى العَلاقَاتِ بَيْنَ الدُّوَلِ أَوِ العلاقاتِ بَيْنَ الدُّوَلِ وبين السِّيَاسِيينَ.
(٤) السَّائِِغَةُ: التي تَطْلُبُ الحَلَّ السَّرِيْعَ.
(٥) العُكُوْسَاْتُ: الشَّيْءُ الذي يَعْكُسُ الشَّيْءَ دُوْنَ التَّوَصُّلِ إِلى تَمَخُّضٍ ديالكتيكيٍّ.