نَاسُ المُسْتَقْبَل




سامي فارس



نَاسُ المُسْتَقْبَل




كُتِبَ في العَام ١٩٩٦ وذُرَّ في ٠١/٢٠/٢٠١٣



اللعبة التاريخيَّة
===============  
إِنَّ ناس المستقبل يمسكون باللعبة التاريخيَّة. إِنَّهم يسيِّرون الأُمور لما فيه أَفضل الإِمكانات المتوافرة مع القوانين الكونيَّة الأُنطولوجيَّة.
ففي الوقت الحاضر توجد مشاكل وتوجد عقبات لأَنَّنا ما زلنا في المسار التَّاريخي العادي المقسوم إلى قسمين:
أَوَّلاً : الفقعة الكبرى التي انقضت منذ مليارات  السنين.
ثانياً: الوجود الإِنساني الذي ابتدأَ منذ ملايين السنين.
فابتداء الكون كان الحصول الظاهر في تكتُّلات الهوماهو التي انبثقت عن نفسها ضمن قواعد مبدئيَّة تتناول تقاطيع ثلثي الثلث (١) وتشابكهما مع تقاطيع نصف النصف (٢).
أَمَّا الظهور الإِنساني  فهو نتيجة الوعي الحاصل لانقضاء إِطلاق الإِطلاق (٣) على نفسه، ممَّا جعل الوَعْيَوِيَّة جزئيَّة من حيث الداخل ولا وعيويَّة شموليَّة من حيث الخارج.
فإِذا انتشرنا على كامل المدى اللاَّانتهائي نكون في عنفوانيَّة اللاَّوعي المبرزخ نفسه على كامل المدى. أمَّا إِذا استقطعنا جُزْئِيَّات من المدى والتقينا على أَنفسنا، نكون في مدى محصور تلتفُّ لائيَّته على نفسه وتلتقي على إِجْبُوْنَتِهِ (٤)، فتكون النتيجة خاصيَّة أُجْبُوْنِيَّة بالإِضافة إِلى خاصيَّة نَفْيُوْنِيَّة، ومن التقاء هاتين الخاصِّيتين ينتشر الوعي.
___________________________  
(١)- الهو يشكِّل الثلث الحيوي والماهو يشكِّل ثلثي اللاَّحَيَوي.
(٢)- النصف هُوَ الهُوْ المنبني نسبة للماهو. ونصف النصف هُوَ الماهُوْ الخارج إِلى الوجود نسبة للهو المنتهي.
(٣)- إِطْلاَقُ الإِطْلاَقِ الأَوَّلي كان لا وعيًا لأَنَّ النَّفية تنتشر على كامل المدى. أَمَّا إِطلاق الإِطلاق الثاني، فقد أَصبح وعيًا بعد أَن استندتْ وعيويَّته على اللاَّ الأُوَّلي وتَجَوْقَلَتْ على نفسها في المدى الثاني.
(٤)-      الإِجْبُوْنَة (بكسر الهمزة) : الحركة الإِيجابيَّة عندما تنكسر.
          الأَجبونة (بفتح الهمزة) : الحركة الإِيجابيَّة عندما تقف.
          الأُجبونة (بضمِّ الهمزة) : الحركة الإِيجابيَّة عندما ترتدُّ على نفسها.


-٢-
والوعي يواجه في المرحلة الأُولى اللاَّإِمكانيَّة بحيث أَنَّ اللاَّ ما زالت مضغوطة على نفسها وغير مضغوطة على الوعي. فيروح الوعي يحاول أَن يدخل مسار النَّفيونة، وبعد جهد جهيد يدخل مسارها عبر مدّ مَجَسِِِّه داخل اللاَّ، فيُقَوْطِب على اللاَّ ويجعل نفسه يخرج من اللاَّ إِلى اللاَّلا (٥) فيكتمل المدى الداخلي (٦)، بعد أَن يكون اكتمل المدى الخارجي، فَيَستقطِع المدى الداخلي على المدى الخارجي (٧)، ويتمُّ البَرْزَخُ العامّ.
إِنَّ ناس المستقبل قد توصَّلوا إِلى البرزخ العامّ، أَي أَنَّهُمْ قد فهموا قوانين الطبيعة، فأَفادوا منها واستفادوا، ويحاولون الآن، وقد حاولوا قبل ذلك، مدّ مجسَّاتهم لإِفادة أَهل الماضي – أَي أَهل الآن – من إِمكانية فهم قوانين الطبيعة كي ينتقل أَهل الآن من عصر اللاَّمعرفة، أَو المعرفة الجزئيَّة إِلى عصر المعرفة التَّامَّة لقوانين الطبيعة التكوينيَّة.
إِنَّ أَهل المستقبل يحاولون بالجهد الجهيد وباستعمال القوانين التي توصَّلوا إِليها، أَن يقرِّبوا قدر المستطاع اللحظة المرغوبة والفضلى التي يتحوَّل فيها أُناس الآن إِلى أُناس يفهمون ويتفهَّمون كامل المدى الوَعيَوي، أَي يتفهَّمون كامل قوانين الطبيعة الأُنطولوجيَّة التكوينيَّة.
وفي الوقت ذاته يتجمَّع المنتقلون من الدنيا الأُولى إِلى الدنيا الثانية في مطارحهم حيث ينتظرون اللحظة المناسبة التي سيعودون فيها من عالمهم إِلى عالمهم الأَوَّل الذي كانوا فيه وولدوا فيه.
إِنَّ ناس العالم الثاني قد انتقلوا من عالمنا هذا بسبب المنطق الكائن التكويني الذي يعتبر هذا العالم مطلقًا والعالم الثاني مطلق المطلق بحيث مَنْ وصل إِلى نهايته الأُوْلى يتحوَّل إِلى نهايته الثانية في العالم الآخر.
أَمّا بعد النِّهاية الثَّانية فهناك عودة إِلى النهاية الأُولى بمعنى أَنَّ مطلَق المطلَق عندما يصل إِلى مطلَقه يتحوَّل إِلى المطلَق ألأَوَّل الأَساسي لأَنَّ العُكُوْسِيَّة الإِطلاقيَّة في الشيءِ تكون نهايتها الإِطلاقيَّة الأُوْلى للشيءِ (٨).
_______________________________  
(٥)- إِنَّ اللاَّلا الداخليَّة مُجْبَرَة على الانغلاق على النَّعْمِيَّة، فيما اللاَّلا الخارجيَّة وحيث أَنَّ مبدأَها هُوَ اللاَّ اللاَّانتهائي بإِمكانها أَنْ تبقى على النَّفيانِيَّة.
(٦)- إِنَّ المدى الخارجي يُبْقِي اللاَّلا في النَّفْيُوْنَة، أَمَّا المدى الداخلي فَيُجْبِرُها على الأَجْبُوْنََة. ونتيجة الاِستقطاع تكون هيكليَّة تنطلق من نَفْيُونَة خارجيَّة إِلى أَجبونة داخليَّة، فَيَضْحَى الوعي مُمْسِكًا بِفِكْرِهِ بالنَّفية الخارجيَّة عَبْرَ التصوُّر، وبالإِجبونة عبر العملي التنفيذي.
(٧)- إِنَّ الوعي يَسْبُرُ اللاَّ المحض وينتقل إِلى حدوديَّتها المحض التي هي "لا ثانية" مُجَانِبَة لها، وتحمل ذات المقاييس.
(٨)- المطلَق الأَوَّل أَصبح عُكُوْسِيًّا، فانتقل بأَجْبُوْنَتِهِ وسَلْبُوْنَتِهِ إِلى المطلَق الثاني (مطلَق المطلَق).وعندما يصل المطلَق الثاني إِلى نهاية دورته، يعود إِلى المطلَق الأَوَّل الزائد، أَي المطلَق الأَساسي مضافًا إِليه حركة الرجوع.
-٣-
فَنَاسُ المطلَق الأَوَّل ينتقلون جماعيًّا إِلى المطلَق الثاني حيث يعيشون حياة فيها ما يشبه الحياة الأُولى وفيها ما لا يشبهها. فالشبه أَنَّ كلّ إِمكانات الحياة الأُوْلى متوفِّرة بالإِضافة إِلى ما لم يُكتشَف بعد من قوانين المادَّويَّة (٩).  أَمَّا غير الشبه فهو في لَطافة المادَّة الثانية التي تَخْرق المادة الأُولى لكون جُزَيْئِيَّاتها هي عُكُوْسِيَّة إِطلاقيَّة المادَّة الأُولى بحيث أَنَّ ميزتها تجمع ميزات المادَّة الأُوْلى وانبِهارها (١٠).
إِلاَّ أَنَّ الصعوبة عند ناس العالم الثاني هي في الاتِّصال بأَصحاب العالم الأَوَّل لأَنَّ مادَّة العالم الثاني يصعب تركيزها على مادَّة العالم الأَوَّل. من هنا يجب ظروفًا معيَّنة لكي يحصل تداخل بين مادَّة العالم الثاني ومادَّة العالم الأَوَّل.
والسؤَال الذي يطرح هُوَ: لماذا لا يقوم أَصحاب العالم الثاني بتفسير وضعيَّتهم لأَصحاب العالم الأَوَّل؟
إِنَّ ما يمنع الإِفشاء هو التخطيط الحاصل من قِبَل أَصحاب المستقبل الذين يُسَيِّرون العالم الحالي والعالم الثاني وفق تركيبة ميكانيكيَّة مادَّويَّة شعوريَّة هدفها إِيصال العالمين الأَوَّل والثاني إِلى مبتغاهما في أَقرب وقت ممكن بما تسمح به القوانين التكوينيَّة الأُنطولوجيَّة.
فإِذا سمح أَهل المستقبل لأَصحاب العالم الثاني بتفسير وضعيَّتهم كاملاً لأَهل العالم الأَوَّل، حصل انقلابٌ فكريٌّ فوتونيٌّ (١١) أَدَّى إِلى خربطات في مجمل الخطَّة التاريخيَّة الحيويَّة النفسيَّة الهادفة إِلى تقصير المسافة الزمنيَّة بين وعيويَّة الإِنسان وبين وصوله إِلى أَورشليم الجديدة (١٢). وهي خطَّة وضعها ناس المستقبل عندما بلغوا من العلم أَقصاه، فسعوا وفق الإِمكانات المتاحة لهم لتسريع الزمن بين وعي الإِنسان البدائي وبين وصوله إِلى اكتشاف كافَّة القوانين التكوينيَّة. وقد كانت الفكرة الأُولى أَنَّ بالمستطاع في لحظة واحدة إِرسال علامة تفسيريَّة إِلى الماضي تؤَطِّر كافة الاختراعات وتضع سجلاً متكاملاً لكلِّ ما يوجب معرفته من قوانين الطبيعة التكوينيَّة.
إِلاَّ أَنَّ ناس المستقبل اصطدموا بمترتِّبات القوانين الأُنطولوجيَّة التي تفرض زمنًا معيِّنًا بين ظهور الوعي الإِنساني وبين معرفة كامل القوانين الشيئيَّة لأَنَّ ذلك هو استعادة لانكشافات حصلت ما بين الاصطدام الأَوَّلي وما بين الوعي الذاتي للأَشياء (١٣).
_______________________________ 
(٩)- المادَّويَّة :تفصيلات المادَّة.        (١٠)- الانبهار : العُكُوسيَّة الداخليَّة.
(١١)- إِنَّ الجُزَيْئَات المادَّويَّة المُنْطَلِقَة من الفكر تؤَثِّر على كامل الحركة التَّاريخيَّة، فتقولبها، إِنْ من الماضي إِلى الحاضر ومن ثُمَّ إِلى المستقبل، أَو من المستقبل عُكُوْسِيًّا في اتِّجاه الحاضر والماضي.
(١٢)- عبارة رمز تعني الحالة التي يعيش فيها النَّاس أَكبر قَدَر من السعادة.
(١٣)- إِنَّ التوازنات التي حصلت على مستوى تداخل اللاَّكِبَري واللاَّصِغَري تُسَيِّر المراحل التاريخيَّة الأُنطولوجيَّة وَتَفْرُضُ أَوقاتًا معيَّنة لمراحل معيَّنة. ويمكن ضغط مرحلة تاريخيَّة إِلى حَدٍّ ما، وذلك بتحويل وترتيب مفهومات وَعْيَوِيَّة وإِحساسيَّة، أَي أَنَّ الفوتونيَّة المادَّويَّة تتحرك صُعُدًا ونزولاً لتتضافر والهَيولانيَّة التشكيليَّة لخلق القالب التنفيذي الوجودي.
-٤-
وكان لناس المستقبل عدَّة إِمكانات زمنيَّة، أَي عدِّة سيناريوهات لتخفيف الزمن الوقتي (١٤) ما بين ظهور الوعي الإِنساني وما بين اكتشاف هذا الوعي لكامل القوانين الطبيعيَّة.
وكان على ناس المستقبل أن يوازوا بين أَقلّ قدرٍ ممكن من الأوجاع النفسيَّة والجسديَّة وأقلّ قدرٍ ممكن من المسافة الزمنيَّة بين حقبة الوعي وحقبة المرحلة الإِجماليَّة. وكان ضرورة الأَوجاع بسبب المبدإِ الأُنطولوجي المعاوِد الذي فَصَّلَ وشقَّق ونََثَرَ في الجُزَيْئات اللاَّواعية، فكان على الميزان التكويني أن يشقِّق ويَنْثُر ويُفَصِّل ما بين المترتِّبات الواعية من أَجل الاستواء التكويني العامّ الذي يرتكز على نفسه كي يتقدَّم، أَي يرتكز على لولبيَّة مُفَصَّلة ليتقدَّم إِلى لولبيَّة ثانية مُفَصَّلة فيها الشيء الكثير ممَّا قبلها، وفيها معقوديَّة هي تنويع جديد للماضي التكويني.
وكانت النتيجة أَنْ سعى أَهل المستقبل إِلى خطَّة تكوينيَّة وَعْيَوِيَّة تتضافر والتكوينيَّة الأُنطولوجيَّة من أَجل أَفضل تاريخيَّة ممكنة تقلِّل من العثار والمصائب وتسرِّع الزمن الوعيوي الإِفهامي.
فالمسار التَّاريخي الإِنساني وما قبل الإِنساني هو نتيجة لقاء وعيويَّة الحاضر وخُطَيْطَة (15) المستقبل والإِمكانات الأُنطولوجيَّة المفتوحة والمُلَوْلَبَة (16).
لذا، فالمشاكل النفسيَّة والعضويَّة الظاهرة فيما مضى والتي ستظهر لاحقًا لا بدَّ منها في المسار الانعتاقي المعرفي لأَنَّها فريضة القوانين الأُنطولوجيَّة العامَّة التي تَتَبَرَّك (17) على نفسها كي تقوم من جديد منتفضة من السَّلبونة ولابسة الأُجبونة المتقدِّمة والمطاوعة الحال، بعد أَنْ كانت الأُجبونة وسَلبونتها الالتزاميَّة غير مستوية، فأَصبحت الأُجبونة الجديدة وسَلبونتها المنتفضة في تكامل أَكبر مع الوعي الإِنساني المُشَقْلَب، ومع إِمكانيَّة التقدُّم والتحسُّن التي هي لولبيَّة انتقائيَّة من الماقَبْلِيَّة اللاَّئيَّة إِلى الوضعيَّة الأُجبونيَّة المتسربلة (18).
______________________________ 
(14)- إِنَّ الزمن يتداخل مع قوَّة المادَّة ليتطاول أو يتصاغر، فيضحى إِمَّا وقتًا صغيرًا بقوَّة مادِّيَّة كُبْرَى، أَو وقتًا طويلاً بقوَّة مادِّيَّة صُغْرَى.
(15)- هي خطَّة عامَّة يضعها أَهل المستقبل للتأْثير على التكوينيَّة منذ الفَقْعَة الكبرى إِلى زمن الوَعْيَوِيَّة الكُمولِيَّة، أَي مرحلة فَهْم قوانين الأَشياء.
(16)- إِنَّ المسار الفعلي يأَتي نتيجة الوعي الذاتي للناس المتأَثِّر بالفوتونات المرسَلة من المستقبل في إِطار فهم أَهل المستقبل للإِمكانات الأُنطولوجيَّة العامَّة التي تكون مفتوحة على عدَّة سُبُل، فيجيءُ أَهل المستقبل ويحصرون هذه الوقائع في حالة واحدة تكون تضافرًا وتمازجًا بين الوعي الإِنساني وأَفضل خطَّة فوتونيَّة ممكنة لتشكيل المسار التَّاريخي الفعلي.
(17)- تنتهي.


-5-
(18)- نَنْتَقِلُ في المسار الوعيوي والمعرفي للأَشياء من حالة أُجبونيَّة وسلبيَّة أَوَّليَّة إِلى حالة أُجبونيَّة وسلبيَّة ثانويَّة، أَي أَنَّ هناك تحوُّلاً وتقدُّمًا في المُنْحَنَى الأُنطولوجي من وَضْعٍ تكون فيه الإِيجابيَّات والسلبيَّات في بوادئها إِلى وَضْعٍ تتقدَّم فيه الإِيجابيَّات والسلبيَّات إِلى خواتمها.
مثلاً :   أ- الرَّجُلُ الذي يمشي (إِيجابيَّة أُوْلى) يَكْسُرُ رجله (سلبيَّة أُوْلى).
          ب- الرَّجُلُ في عربة يجرُّها حصان (إيجابيَّة ثانية) ينكسر دولاب العربة (سلبيَّة ثانية).
          ج- الرَّجُلُ في سيَّارة (إِيجابيَّة ثالثة)، انْفَخَتَ الدولاب (سلبيَّة ثالثة).
                                                ..........
















-6-
ناس العالم الثاني
===============  
إِنَّ ناس العالم الأَوَّل ينتقلون عند نهاية حياتهم الأُوْلى إِلى موضع جديد مُنْشقّ عضويًّا عن الموضع الأَوَّل حيث بإِمكانهم الاستمتاع بكلّ ما يريدون، وبكلّ ما كانوا يتمنُّونه عندما كانوا في العالم الأَوَّل(19).
فالبعض أَراد قصورًا، وفي العالم الثاني هناك قصور، والبعض أَراد مأْكلاً، وفي العالم الثاني هناك كلُّ ما لذَّ وطاب، والبعض أَراد مشربًا، وفي العالم الثاني هناك كلُّ أَنواع المشروب ممَّا يعرفه المرء وممَّا لا يعرفه. والبعض أَراد التعرُّف على حوريَّات ولا أَجمل ولا أَشهى، وفي العالم الثاني هناك العديد من الجميلات التي قلَّ أَن يُرى مثلهنَّ  في العالم الأَوَّل وأَن يُشَاهَدَ بكمال أَجسامهنَّ وليونة بشرتهنَّ وتأَلُّق شكلهنَّ.
وهكذا يتنقَّل الوافد الجديد من ملمح إِلى آخر متعجِّبًا، مشدوهًا، منبهرًا من كلِّ ما يراه ويشاهده من غرائب الأُمور وعجائب الظُّهور، وفيها كلُّ ما يدور في الخَلَد من تمنِّياتٍ وصُوَرٍ مُذ كان صغيرًا في مربط السرير إِلى أَن انتقل شابًا أَو كهلاً أَو شيخًا إِلى الدنيا الجديدة.
إِنَّ الدُنْيا الأُوْلى مثَّلت جُهْدَ الهوْ للاندخال في الماهوْ، وما في ذلك من صعوبات وتشنُّجات وخيبات ونكسات. أَمَّا الدُنْيا الثانية فتعني وصول الهوْ إِلى الماهوْ والاستمتاع بالخيرات والملذَّات وكلّ ما أَمل به الإِنسان وراق له في وضعيَّته الأُوْلى. إِلاَّ أَنَّ حُدود الدُنْيا الثانية تكمن في عدم المقدرة من الانتقال مجدَّدًا إِلى العالم الأَوَّل وذلك بسبب عدم إِمكانيَّة الالتصاق بين حُبَيْبَات المادِّيَّة الأُولى وحُبَيْبَات المادِّيَّة الثانية. فكلُّ نوع من الحُبَيْبَات له إِطاره المادِّي – الجغرافي مِمَّا يشكِّل ثُنائِيَّة هَوَوِيَّة مادِّيَّة جغرافيَّة. أَمَّا إِمكانيَّة عودة الاِندخال في العالم الأَوَّل فهي رهن بمعرفة أَكبر لِقوانين تداخُل المادَّويَّات بين بعضها البعض، وهو عِلْمٌ لا يملكه حاليًّا أَهل المستقبل، وهم لا يتمكَّنون الآن من إِيصال هذا العِلْم إِلى العالم الأَوَّل بسبب القوانين الأُنطولوجِيَّة التي تفرض زمنًا مُعَيَّنًا للانتقال من العالم الثاني إِلى العالم الأَوَّل.
وفي أَثناءِ ذلك يَنْعَمُ أَهل العالم الثاني بالنتائج الإِيجابيَّة لمعرفة أَهل المستقبل كامل القوانين الأُنطولوجيَّة. فأَهل المستقبل قد تمكَّنوا من السيطرة على القوانين التي تُسَيِّرُ العالم الثاني وحوَّلوا هذا العالم إِلى وضعيَّة مشابهة لوضعيَّة العالم الثالث، أَي العالم المستقبلي، إِلاَّ في حدود انتقال أَهل العالم الثاني إِلى العالم الأَوَّل.
______________________________  

(19)- نعني بذلك موضعًا فيزيائيًّا له خصائص معيَّنة وجاء كما العالم الأَوَّل نتيجة الانفجار الكبير، أَي أَنَّ العالم الثاني كان العُكُوْسِيَّة النَّهْيَوِيَّة لفيزيائيَّة العالم الأَوَّل. فإِذا اعتبرنا أَنَّ العالم الأَوَّل شكَّل صورة للهوْ، فإِنَّ العالم الثاني شكَّل صورة للماهو.
-7-
أَمَّا أَهل العالم الثاني فَهُمْ غير واعين إِجمالاً إِلى دور العالم الثالث في مسارهم بشكل خاص، وفي المسار التاريخي الكوني بشكل عام، لأَنَّ الدور المناط لأَهل العالم الثاني لا يوازي الدور الذي يقوم به أَهل العالم الثالث الذين يُسَيِّرون بطريقة عِلْمِيَّة – أُنطولوجِيَّة مسار التقدُّم الإِنساني بتشابُكٍ مع القوانين المنطقيَّة التكوينيَّة الأُنطولوجيَّة.
يَحِنُّ أَهل العالم الثاني إِلى أَهل العالم الأَوَّل حيث مَرْبى طفولتهم، ومرتع شبابهم، ومسرب كهولتهم، ومرفق شيخوختهم. فَهُمْ لا ينفكُّون يزورون الأَرض للإِطِّلاع على أَحوال أَهلها وهمومهم. يجتهدون في المساعدة على حَلِّ المشاكل الحاصلة يوميًّا عبر التأْثير فكريًّا على نظريَّات العالم الأَوَّل. فَهُمْ يضعون خبرتهم وما توصَّلوا إِليه بالتفكير والاجتهاد بتصرُّف أَهل الأَرض من أَجل الخروج من المعضلات المتراكمة التي يُسَبِّبُها المسار التَّاريخي وتعرُّجاته المختلفة.
وبعض أَهل العالم الثاني ما زال متمسِّكًا بمواقفه الماضية عندما كان في حياته البِدْئِيَّة. فهو يناضل من موقعه الجديد من أَجل التزاماته السابقة ومشاريعه الجماعيَّة حيث يحاول الوصول بصحبه على الأَرض إِلى الغاية المنشودة والهدف المرغوب. وهو ما زال ممتلئًا بمشروعٍ تاريخيِّ أَو اجتماعيِّ معيَّنٍ يحاول بمعرفته الجديدة وبفضل إطِّلاعه على شؤُونٍ تكوينيَّةٍ أَن يساعد جماعته على تطبيق ما كانوا ينوون فعله. وهو يجهد أَن يمرِّر أَفكاره عبر الهُلامِيَّة المتسرِّبة بين العالم الثاني والعالم الأَوَّل لينضح المجموعة باجتهادات جديدة تتداخل مع  فكر الأَرضييِّن لتشكِّل عُصارة من فكر أَهل الأَرض ومن فكر العالم  الثاني.
أَمَّا البعض الآخر فيهتمُّ بعائلته ومصيرها، ويرافق شؤُونها وشجونها اليوميَّة. فأَقلّ حركة تهمُّه، وما يصير إِليه كُلُّ فردٍ من العائلة يوقعه في غمٍّ أَو يقيمه في فرح. فإِن نجح أَحدٌ من الصغار في امتحان كانت له صَوْلات وجولات من الحبور والهَنَاءَة والسرور. وإِن فشل أَحدهم في الفحص تكدَّر وقطَّب الجبين واغتمَّ.  ومَنْ منهم صار  إِلى فرح أَو حاز على جائزة  أَو تقدَّم في الوظيفة أَو في الأَعمال ،  أَثَّر بذلك على من اهتمَّ به من أَهله وأَقربائه وأَصحابه في العالم الثاني، فأَفرحهم وأَثلج صدورهم، وجعلهم في ارتياحٍ وانبساط. أَمَّا إِذا أَصابه مكروه أَو طرأَت عليه نائبة، تحوَّل فرحهم إِلى حزن، وانبساطهم إِلى عبوس، وضحكتهم إِلى تجهُّمٍ.
أَمَّا البعض الآخر في التكوين الثاني، فَهُمْ مُنْزَوون في أَماكنهم يحاولون استنطاق الزمن، والزمن عليهم حصيف. يحاولون التحليل  بين ما كانوا فيه في ما مضى وما وصلوا إِليه الآن ليقارنوا بين المعاني المتعدِّدة للتكوينيَّة والانتقال، ولا يصيبون شيئًا ممَّا يتفتَّح له العقل، ويرتاح له التفكير. وهُمْ في بحثهم ينكبُّون، وفي تساؤُلاتهم يكثِّفون، ولا يَصِلون إِلى نتائج تُشِيل الغشاوة عن العيون؛ وإِنْ فعلوا، فَهُمْ يَعْلَمون أَنَّ قيود القوانين التكوينيَّة تمنعهم عن الإِفصاح عمَّا توصَّلوا إِليه من نتائج، أَو أَنَّ وضعيَّتهم في العالم الثاني تمنعهم من تحويل أَمانيهم إِلى واقعٍ، ورفع التعثُّر الفيزيائي عنهم، أَو بينهم وبين العالم الأَوَّل، أَو بينهم وبين العالم الثالث (20).___________  
  (20)- إِنَّ الانتقالات الفيزيائيَّة والفوتونيَّة بين العوالم الثلاثة هي استثناءاتٌ ترتبطُ بالوضعيَّة الأُنطولوجيَّة وبالتحكُّم الخَفيِّ أَو الظاهر لأَهل العالم الثالث، ولبعض إِجراءَاتٍ من أَهل العالم الثاني.
-8-
أَخلاقيَّةُ العالم الثاني
==================  
عندما يصل إِبن العالم الأَوَّل إِلى العالم الثاني يتعجَّب لتبدُّل المقاييس والقِيَم بين عالمه الجديد وعالمه الماضي. فالعلاقات الاجتماعيَّة هي على المكشوف بسبب إِمكانيَّة كلّ شخص أَن يعرف ما يفكِّر به الشخص الآخر، إِنْ كان لقضاياه الخاصَّة أَو بما يتعلَّق بعلاقاته مع الآخرين. فتنتفي عندئذ المراوغة والمُمَالأَة والاختباء وراء وقائع غير صحيحة. فكلّ شخص في العالم الثاني يَعْلَم بما يفكِّر به وتجاهه الآخرون، وإِنْ كان ينطبق على ما يعلنونه أَمْ لا.
عندئذ تصبح العلاقات أَكثر بساطة، وتتعمَّق الصراحة وتتبلور. فلا أَحد مُجْبر أَن يداهن الآخر لأَنَّ في الأَصل لا أَحد يحتاج الآخر من الناحية المادِّيَّة. فكلٌّ بإِمكانه أَنْ يأْكل ما لذَّ له وطاب (21)، وأَن ينتقي ما أَراد من دور وقصور، وأَنْ يسافر إِلى أَقطار العالم الجديد الأَربعة، وأَنْ يتمتَّع بما يشتهي من أَسباب التسلية واللَّهْوِ (22).
وفي العالم الثاني يكتشف كلّ واحد السيرة الحقيقيَّة لكلِّ من أَحاط به، وسيرة كلّ شخص يهمُّه معرفة حياته، وهل كان صادقًا في تصرُّفاته وأَقواله أَمْ لا .
لا شيء يُخْفَى عن أَهل العالم الثاني لأَنَّهم يراقبون باستمرار أَهل العالم الأَوَّل ويَعْلَمون ما يضمرون وما يفكِّرون، وكُلَّ مجريات أَحوالهم. إِلاَّ أَنَّ هناك عدم إِمكانيَّة فيزيائيَّة للاتِّصال بهم وتوعيتهم على كُلِّ ما يحصل لضرورة إِجراءَاتِ الفصل التاريخي بين العالمين الأَوَّل والثاني لتكوين مادَّة زمنيَّة هي الشرط الأَساسي للانتقال من حال عدم المعرفة إِلى المعرفة الجزئيَّة، إِلى المعرفة الأُكْموليَّة للقوانين الطبيعيَّة والأُنطولوجيَّة.
عندما يصل إِبن العالم الأَوَّل إِلى عالمه الجديد، يُعْلَمُ بكُلِّ المواقف الخفيَّة لأَصحابه وأَقربائه، ولأَهل السياسة والفن والمجتمع، وما هو الفارق بين سيرتهم العلنيَّة وسيرتهم الباطنيَّة. عندئذ يأْخذ موقفًا منهم على ضَوْءِ ما عرفه من حقيقة مواقفهم وتصرُّفاتهم. فمن كان صادقًا معه وقويمًا صادقه وازداد محبَّةً له، ومن كان غير صادق وملعونًا، انفصل عنه وتركه (23).
____________________________  
(21)- أَوْ أَنْ لا يأكل إِن أَراد لأَنَّ وظيفة الأَكل لا تعود أَساسيَّة للاستمرار، بل تضحى عادة يمكن متابعتها والتلذُّذ بها أَو الاستغناء عنها والاهتمام بأُمور أُخرى.
(22)- مراجعة أَدبيَّات التوسُّط وتقارير الذين عادوا من العالم الثاني بسبب اِستعادة البدن عافيته بعد أَن كاد ينهار.
(23)- إِنَّ القريب في الدُّنيا الثانية يخسر محبَّة المُتَفَتِّح إِلى أَن يصلح من شأْنه أَو أَن يصفح عنه من تأَذَّى منه. أَمَّا من هُوَ في الدنيا الأُوْلى، فيخسر عطف أَهل العالم الثاني ومحبَّتهم.
-9-
أَمَّا بالنسبة للناس المعروفين، فبإِمكانه عندئذٍ أَنْ يقيِّمهم وفق حقيقتهم. فمن كان صادقًا في تصريحاته، محبًّا للنَّاس فعلاً، فهو يربح عندئذٍ عطف النَّاس. ومن كان مبغضُهم في السرِّ ومتشاوفًا عليهم، عُرِفت حقيقته وظهر كما كانت نوياه. فينفضّ الكلّ عنه، ويبقى وحيدًا إِلاَّ من الخُلُّصِ الذين يتعلَّقون به، مهما فَعَلَ ومهما قال (24).
والوافِدُ الجديد إِلى دنيا الحقِّ يوضع تحت المجهر الحقائقي، فتبان سيرته مُذ ما كان طفلاً لغاية وصوله إِلى دُنْيا التعارُف، وتَظْهر أَفعاله وأَفكاره وأَقواله على الملأ. فمن اعْتَبَرَ من الموجودين أَنَّه مال إِلى الخير، صادقه وصاحبه ولازمه. ومن اعتبر أَنَّ سيرته ليست كما يجب، وأَنَّه أَخطأَ أَكثر ممَّا أَحسن، انْفَضَّ عنه وتركه.
فلا هُوَ يمكن أَن يُبدِّل من حقيقة صورته، ولا يستطيع أَن يلبس غير لباسه. فيحصد ما قد زرع، وينتج ما قد حصد. لكنَّ الوضع لا يبقى على حاله؛ فقد يعود المخطئُ إِلى رشده، ويَفهم أَنَّه ظَلم غيره، أَو استهتر به، أَو تكابر عليه. عندئذٍ يعود من انفكَّ عنه، ويُحَاط بالصداقات والأَحبَّاء والعطف الأَخوي السديد.
وقد يتشبَّث الوافد الجديد بأَعماله الماضية ويعتبرها صائبة، وأَنَّها هكذا يجب أَن تكون، ويحيا بين أقرانه في لذَّة ورغد، إِلاَّ أَنَّه بعد مدَّة يعود إِلى نفسه فيرى أَنَّ أَفعاله كانت على غير صواب، فَيَفهم أَنَّ ماضيه كان غير مُجْدٍ وأَنَّه ما كان عليه أَن يفعل ما فعل. عندئذٍ يعود إِليه أَصحاب رهافة الحسِّ والتطلُّب الإِنساني ويحلُّونه بينهم، فيتحسَّس اللطافة الأَخلاقيَّة إِلى أَقصاها، ومحبَّة الآخرين، وسبل التضحية من أَجلهم. فينتقل من مفهوم الواجب الجامد إِلى مدى السعي لإِسعاد من يلتقيه، ومن لا يزال في أَيِّ عالم كان، يواجه صعوبات نفسيَّة ومشكلات زمنيَّة.
ولا نَعني أَنَّ القاطن في العالم الثاني لا يعيش حياة محسوسة، بهيجة، عمليَّة. فهو متى وصل إِلى ذلك العالم تلذَّذ بكل ما لم يصل إليه في عالمه الأَوَّل. فإِنْ افتَقَد إِلى البنات الجميلات، يرى منهنَّ العشرات، بل المئات، تلاطفنه، تتحبَبْنَ إِليه، تُنَفِّذن طلباته وتمنِّياته. فهنَّ قد سبقناه إِلى ذلك العالم، وعشنا هانئات فرحات مددًا طويلة، ونِلْنَ كلّ ما ابتغينا وأَردنا عندما كُنَّ في التُّخوم الأُوْلى. إِذْ ذاك، عندما أَحْسَسْنَا أَنَّ كلَّ متطلِّباتِهُنَّ المادِّيَّة والجسديَّة قد لُبِّيَتْ، أَخذنَ يفتشنَ عن سعادة نفسيَّة في إسعاد الآخرين، وبالأَخصّ من يأتون من العالم الأَوَّل متضايقين، مسحوقين، منبوذين، لا تكلِّمهم فتاة بسبب نقص جسديٍّ أَو فقر مادِّيٍّ، أَو وضع اِجتماعيٍّ أَو عنفوان قوميٍّ. وتأتي حوريَّات العالم الجديد لِتُنْسي المغبون كُلَّ أَوجاعه، والمصدوم كُلَّ افتئات حصل له. فيعيش في جنَّة تدور حولها الأَنهار، والطيور تنتشي فرحى بشمس لا تنطفئ وبهواءٍ عليل خفيف، وبفيءٍ منعش رطيب، وأيدي ناعمة تبلسم جراح الأَيَّام الغابرة، وأنفاس لطيفة تنمِّي الأَمل في السعادة الحاصلة، وأَجساد خلاَّبة يشعُّ منها الجمال بأَحلى معانيه، وأَوجه سليفة يرشفها المرء بغبطة لا تنتهي، وعيون حَوَر تتَّسع لأَكوان متبدِّلة، وصدور ناهدة ما تغيَّرت ولا تراجعت، وأنامل دقيقة – حفيف ورق يغطُّ على الجسد – وبطون مكوَّرة  لا طعجة فيها ولا تثنية، وأَرداف جامدة عالية، وسيقان تنسحب على مهل ولا تنتهي. وأَلوان متماوجة تنقل الآتي إِلى جنَّة لم يتصوِّرها عقل ولا تنبَّه لها إِحساس.__________      
(24)- إِنَّ الناس المعروفين الذين ينتقلون إِلى العالم الثاني يُقَيَّمون وفق حقيقتهم. فمنهم من يُبَيَّض وجهه لأَنَّه كان صادقًا، ومنهم من يُسَوَّد لأَنَّه كان مُنَافقًا، مغرورًا، لا يحبُّ الناس، بل يُظْهِرُ نفسه من هذا القبيل.
-10-
يمور القادم في حلم واقعيٍّ يُعَوِّضُ فيه أَيَّامًا تعيسة تَحَمَّل فيها الوحدة مقدارًا، والأَلم أَطنانًا لا تَرْتَخي ولا تَنْنَقص. وَحَمَلَ عن الإِنسانيَّة أَصنافًا من التَّعاسة لا توصَف ولا تُعَدُّ. فَحُقَّ له أَن يَنْعَمَ بالبهجة والسَّلوى لأَنَّه كان الواسطة الوَعْيَوِيَّة التي ساهمت مع غيرها في تَحَمُّلِ القوانين الأُنطولوجيَّة التكوينيَّة التي فَرَضت مقدارًا معيَّنًا من العذاب النفسي والجسدي لتستوى الإِنسانيَّة في منصب السعادة والحياة الهنيَّة. فكلُّ مظلوم وكلُّ مقهور وكلُّ فقير وكلُّ مُقْعَد وكلُّ غير جَمَالي وكلُّ من انْتَقل إِلى العالم الثاني ساهم في الكمِّ التاريخي الجبري المفروض أُنطولوجيًّا لتحويل البشريَّة من مرحلة اللاَّسعادة إِلى مرحلة السعادة، ومن زمن القهر إِلى زمن الغبطة والسرور. إِنَّ الذين تعذَّبوا وتقهقروا في المرحلة التحويليَّة حَمَلوا في أَجسادهم وأَذهانهم وأَفكارهم كتلة شعور اضطراريَّة كانت المقدار الذي استندت إِليه الأُنطولوجيا التَّاريخيَّة لِنَقْلِ الكينونة من مرحلة العذاب النفسي والجسدي إِلى مرحلة السعادة اللاَّمتناهية المنتشرة في كلِّ الأَقاصي وفي كلِّ الرُّبوع.
أَمَّا من وَصَلَ وزوجه إِلى العالم الجديد أَو سبقته رفيقته إِليه، أَو جاءت بعده، وكان في حياته الأرضيَّة قد حلف لها أَغلظ الإِيمان أَنَّه مُخْلص، لا يفكِّر بغيرها، ولا اهتمَّ بحوَّاءَ إِلاَّ بها، ولا عاشر إِلاَّها، بل سعى أَيَّامه ولياليه لإِسعادها وإِدخال السكينة إِلى روحها؛ عندئذ تستطلع شريكة العيش دفتر الأَيَّام الماضية، وتستفسر عن كلّ لحظة مَرَّتْ أَو هنيهة عَبَرَتْ. فإِن صدق زوجها، وكان عند حسن ظنِّها، كوفئَ بأبهج الصور وأَفضل الطرق. فهي تظهر له بأَحلى ما كانت عليه في عِزِّ جمالها ويزيد. وفي أَفضل فتنتها وأَقواها، تلاطفه، تجالسه، تسامره على موائد فضفاضة وفي مخادع رجراجة، عند غسقٍ تضيئه الأنوار الخافتة والأَجواء الحالمة والأَنفاس العابقة.
ومن كان في حياته الأُوْلى لطيفًا مع زوجته، ودودًا، حليمًا، متفانيًا، ساعيًا لتمكينها من رهافة العيش وحلاوة العمر، مشاركًا إِيَّاها مسؤوليَّة الأَعمال وتبعات الواجب، كافأته شريكة الحياة في العالم الثاني بزيٍّ جسدِيِّ تنبهر له الأبصار، وتبدو بِطَلَّةٍ مثيلة لما أُعجب به على الأرض من فاتنات جميلات. فيوم تفاجئه بِهَيْئَة ممثِّلة مشهورة، وآخر بمنظر مغنِّية معروفة، وصبح تظر كفتاة تمنَّاها في شبابه، وبَدْرٌ كالجارة التي أُعجب بها، وأُمسيَّة رفيقة الدَّرس التي لم يجرؤ على بثِّها لواعج حبّه، وغَدويَّة كالتي أبصرها في الشارع، فانبهر بها ولم يسعفه الحظ للالتقاء بها ثانية.
في مُحيا زوجته تتبدَّل الإِمكانات وتتنوَّع الجمالات، كما رآها في الحلم، وكما تخيَّلها في اليقظة. فمظهرها يعيد كلّ تموُّج الحسن والبهاء. عاطفتها نحوه تتأَجَّج وتزيد. وهو في غبطة عارمة ولذَّة شديدة. يرى الجميلات يتقاطرن حوله، فيحسن مخاطبتهنّ والتحدُّث إِليهنَّ، والإِصغاء إِلى أَفكارهنَّ وعواطفهنَّ وتمنِّياتهنَّ. لا عجب، فالمظهر في تبدّلٍ والمرأة واحدة، عرفها أفضل معرفة إذ شاركها أوقاتها وشاركته همومه، شاركها مشاكلها وشاركته سبل عيشه.
فالكلام بينهما لا ينتهي، بل يتجدَّد ويدوم ويتعمّق. فهي تفرح لما يوقظ فيه تحوّل شكلها وتبدّل زيّها من أحاسيس متنوِّعة ولهفات متراكمة. وهو مسرور إِذ يرى زوجه تُلَخِّص في طلّتها كلّ أَنواع الجميلات الفاتنات مع الاحتفاظ بذاتيّتها ولذائذهما المشتركة، والتفاهم المستمر في أَصغر الأُمور وأَعظمها. إِنَّهما يعيشان القضايا الأُوْلى في سلاستها وليس في صعوبتها، وفي بهائها المشترك وليس في مطارق العمر التي تقصف المظهر والبدن فتؤخِّرهما وتضعفهما وتشظِّي العلاقة المبنيَّة على جمال الشباب وانسجام الأَفكار. إِنَّ الذين يتخلَّصون من ضربات الطبيعة  يعيشون  في سعادة  قصوى لأنَّهم  يَظْهرون  لبعضهم
-11-
بعضًا في أَجمل جسم وأَفضل هيئة. يُبَدِّلون الشكل وفق ما يريدون، ووفق ما يتَّفقون عليه لكي يتحسَّسوا كلّ مباهج الحياة، وكلّ محاسن الإطلالة السَّاحرة. 






















-12-
الانتقال
========    
إِنَّ مشكلة الإِنسانيَّة الحاليَّة هي في عدم التواصل بين الذين يقطنون العالم الأَوَّل وبين الذين بَلغوا العالم الثاني. أَمَّا عند اللحظة التاريخيَّة المتوخَّاة، فسينتقل ساكنوا العالم الثاني إِلى العالم الأَوَّل وسيتعارفون إِلى بعضهم البعض. فمن كان له أَبٌ رحل إِلى العالم الثاني، سيلقاه مجدَّدًا. ومن كانت له أُمٌّ تركت مقرّ البدن، سيراها من جديد. فالعائلات ستلتئمُ، والشمل سيجتمع، والأحفاد سيتعرّفون على الأجداد وأجداد الأجداد، والأصدقاء على الأصدقاء، والأصحاب على الأصحاب، والرِّفاق على الرِّفاق. وسَتُقَابِلُ الشعوب القديمة الشعوب الجديدة، وسيتمّ لقاء شامل جامع منذ بدأت الإِنسانيَّة إِلى لحظة العودة. فكلُّ ما كان ويكون سيجتمع إِلى بعضه البعض. فالماضيُّون يعرفون أَهل الحاضر لأنَّهم راقبوهم ورافقوهم في حلِّهم وترحالهم، وواكبوهم في كلِّ لحظة من معيشتهم الأَرضيَّة والثانوثِيَّة (25). أَمَّا أَهل الحاضر، فلا يعلمون شيئًا عن أَهل الماضي إِلاَّ ما حفظته كتب التاريخ وأخبار القدماء وبعض الأساطير المضخَّمة واستنتاجات أهل الآثار والاستقصاء.
وستتصادق الجماعات التي لها أحاسيس مشتركة وهموم مشتركة ومفاهيم مشتركة، وسيعيشون مع بعضهم البعض مجاورةً لجماعات أُخرى لها مفاهيم قريبة وأماني قريبة وتصورّات قريبة.
أَمّا الأرض، فهي لن تتَّسع لكلِّ الآتين من التَّكْتُوْلَة الثانوثيَّة (26). وهؤلاء يمثِّلون الإِنسانيَّة على مدار الآلاف، بل الملايين من السنين. عندئذ، وبفضل تقدّم العلوم ووصولها إِلى مفهوميَّة الأُنطولوجيا بالكامل، سَتُعْطَى كواكب بالعشرات، بل بالملايين ليعيش عليها من كان في العالم الثاني وعاد إِلى العالم الأَوَّل، بالإضافة إِلى ساكني العالم الأَوَّل.
وستتحوَّل هذه الكواكب إِلى تأْطيرات جغرافيَّة تُلَبِّي إِرادة المجموعات في مناخٍ مُعَيَّنٍ ومناظر مُعَيَّنَة. فَكُلُّ تصوُّر لفردٍ أَو مجموعةٍ سيُصار إِلى تنفيذه. وَكُلُّ تمنِّي أَو تفضيل سيُصار إِلى انخلاقه. فأصحاب العالم الثاني لن يتعجَّبوا لأَنَّ تسهيلات عالمهم هي ذاتها تسهيلات العالم الجديد بالإِضافة إِلى إِمكانيَّة جديدة للتَنُقُّلِ الدائم بين العالمين الثاني والأَوَّل وبالعكس.
____________________________  
(25)- الثانوثِيَّة: نِسْبَةٌ إِلى العيش الثاني بعد الانتقال إِلى العالم الثاني، أَي أَنَّ أَهل الماضي القريب الذين انتقلوا إِلى الحياة الثانوثِيَّة بقوا تحت مراقبة أَهل الماضي البعيد وأَصبحوا بدورهم يُرَاقِبون أَهل الأرض غير المنتقلين.
(26)- نِسْبَةٌ لِلْبَرْزَخِ التَّكَتُّلي، أَيْ العالم الثانوثي الذي سَكَنَهُ المنتقلون من الأرض.


-13-
أَمَّا أَهْلُ الأَرض غير المنتقِلين، فسيتعجَّبون أَيَّما إعجاب بحصول كلّ هذه التسهيلات، وسيتحسَّسون نَعِيْمَ العيش دون المرور بالعالم الثاني، ودون ضرورة ترك الجسد الفيزيولوجي الأَوَّل للدخول إِلى عالم السُّهولة والارتياح. إِنَّ أَهل الأَرض العائشين في لحظة عودة أَهل العالم الثاني سيتمتَّعون بالإِنجازات البَرْمَكِيَّة (27) دون تجربة الانتقال، وسيتعرَّفون على الشعوب الماضية وعلى تجاربها في العالمين الأَوَّل والثاني ويُعلَمُوْنَ بِكُلِّ ما حَصَلَ لها فرديًّا وجَماعيًّا
________________________________  
(27)- أَي الوصول إِلى البَرِّ المناسِب وإِلى المكان المناسِب.















  


-14-
الديانات
========  
الديانات لها ضرورةٌ من حيث تقريب المسار الأُنطولوجي والتخطيط من أَجل شَقْلُوْبَةٍ هَوَوِيَّةٍ تَمُدُّ المستقبل بِتَرْدِيْدَاتٍ أُنطولوجيَّةٍ تُؤَثِّرُ على الحركة العامَّة المُنْتَقِلَة استمرارِيًّا بين الماضي والمستقبل وبين المستقبل والماضي.
فالمؤمن الاعْتِنَاقي (28) يَفْرُزُ في التَّصَوُّرِ الإِقْصَائي (29) رُوْحِيَّةً فُوْتُوْنِيَّةً تنتقل لَحْظَوِيًّا إِلى كامل المدى الماضي-الحاضر-المستقبَل، ممَّا يؤَدِّي إِلى خطوطٍ أُنطولوجيَّةٍ مُعَيَّنةٍ. وعلى هذه الخُطوط يَشْتَغِلُ أَهل المستقبل، فَيُكَيِّفونَها لِتَتَنَاغَم مع المَدِّ الأُنطولوجي العُمومي. وتكون النتيجة شَبَكِيَّة مادَّوِيَّة فوتونِيَّة تُبَرْزِخُ بين الماضي والحاضِر والمستَقْبَل، فَتَفْعَل في المَدَى الكَيْنوني منذ لحظة الانفجار الكبير إِلى تَتَابُعَاتٍ تصل إِلى لَحَظَات (30) المستقبل الكبير (31) مِمَّا يُؤَدِّي إِلى هُيُولى مادَّوِيَّة تَنْتَقِل لَحْظَوِيًّا وديموميًّا بين الماضي والمستقبل.
_______________________________  
(28)- أَيْ من اعتنق ديانةً مُعَيَّنَةً.
(29)- التصوُّر الإِقْصَائي هو التصوُّر الذي يمتدُّ لانِهَاءَوِيًّا فَيَضْحَى في النَّفْيُوْنَة صحيحًا كحالَةٍ لا مَحْدُوْدِيَّة، ويكون في النِّهَاءَوي غير صحيح كحالة مَحْدُوْدَة، فَيُمْسِك في جُزْءٍ منه النَّفْيَة وفي جُزْءٍ آخر الأُجْبُوْنَة، ويكون في الوقت نفسه المتوازن لحركة لانِهَاءَوِيَّة مُضادَّة يشتغل عليها أَهل المستقبل لتمرير على الإِحساسِيَّات الفوتونِيَّة شبكة عَلائِقِيَّة تَسْمح بِتَسْوِية المسار الأُنطولوجي المادَّوي وِفْقَ طريق هي المتوازِن التَّاريخي الأُنطولوجي المشغول لا آخْرَوِيًّا.
(30)- لَحَظَاتُ (بفتح حرف الحاء): الانْتِبَاهات بالإِضافَة إِلى الوَقْتِيَّات.
          لَحْظَاتُ (بتسكين حرف الحاء) : الوَقْتِيَّاتُ فَقَطْ.
(31)- المستقبَل الكبير هُوَ المستقبَل اللاَّ مُتَصَوَّر، والمستقبَل الصغير هُوَ المستقبَل المُتَصَوَّر.
إِنَّ المُسْتَقبَلَ اللاَّمُتَصَوَّر هُوَ المستقبَل رقم أَربعة، فيما المستقبَل الصغير أَوِ العادي هُوَ المستقبَل رقم ثلاثة. وقُوَّة المستقبَل رقم أَربعة هِيَ في امتداده اللاَّنِهائي، وَمِنْهُ تنطلق الأَحكام اللاَّنِهَاءَوِيَّة التي هِيَ جَمْعٌ لا نهائيٌّ لأَحكام المُتَتابعين. وتَتَبَرْزَخُ هذه الأَحكام في الحاضر والماضي. ونتيجة أَيّ حُكْمٍ على عملٍ ما، أَوْ تَصَوُّرٍ ما، أَو تَحَسُّسٍ ما، تكون من جرَّاء تراكمٍ جماعِيٍّ لا نهائيٍّ للمستقبل رقم أربعة.


-15-
فالمؤْمِنُ الإِقْصَاوي في اعتناقه صورة إِطلاقِيَّة مُعَيَّنة يحمل إِحساسِيَّةُ بين الماضي البعيد والمستقبل البعيد لأَنَّ الخط الفوتوني المُنْتَشِر تَزَمْكُنِيًّا يؤَلِّفُ في الوقت نفسه مادَّة إِحساسِيَّة يُمْكِنُ الاشتغال عليها لتحويلها إِلى شَبَكِيَّة تاريخيَّة عامَّة. فالتحَسُّسُ النَّفْسي هو في الوقت ذاته حالة مادَّوِيَّة مُعَيَّنة تَفْعَلُ على مدى اللَحْظَوِيَّة التاريخيَّة، فتكون النتيجة تيَّارات تَحَسُّسِيَّة تاريخيَّة تُوَجِّه المسار الأُنطولوجي بشكلٍ عام. فالمؤمن الإِقْصَاوي عندما يَخْتَلِجُ في نفسه يُطْلِقُ حالة إِحساسيَّة مادَّوِيَّة في المَدَى التاريخي - اللاَّتاريخي(32)، وهو إِذْ ذاك يضع (33) اللُبْنَة الإِحساسِيَّة المادَّوِيَّة التي يرتكز عليها أَهل المستقبل لتفعيل اللُبْنَة المادَّوِيَّة الهَدَفِيَّة التي تُؤَطِّرُ المسار الأُنطولوجي بشكل عامٍّ لتكوين تاريخيَّة طبيعيَّة وإِنسانيَّة تنقل الوضع الإِنساني من اللاَّمفهوم إِلى المفهوم.
إِنَّ الإِحساسيَّة الدينيَّة بشكل عام، والإِحساسيَّات الفرديَّة والجماعيَّة بشكل خاص هي المدماك الأَوَّل لعمليَّة تشابكيَّة حسابيَّة فيزيائيَّة يقوم بها أَهل المستقبل لتطوير الوضع الماضوي (34) من حالة عَدَمِ المعرفة إِلى حالة المعرفة. إِنَّ عمل أَهل المستقبل يستند إِلى تَطَوُّرِيَّة إِحساسيَّة تاريخيَّة ينقلونها عبر تقنيَّتهم المتقدِّمة إِلى برنامج كيميائي فيزيائي نَفْسِي يُحَوِّل اللاَّمفهوم إِلى معرفة في القوانين الأُنطولوجيَّة وتشكيلاتها الحسابيَّة المبدئِيَّة، ولُقْيَاها الفيزيائيَّة الكيميائيَّة البيولوجيَّة.
______________________________ 
(32)- إِنَّ اللاَّتاريخ هو غير اِلْتِفَافي، وهو محصور في ثلاث لَحْظِيَّات:
أ- لَحْظِيَّة الهَيُوْلى.   ب- لَحْظِيَّة الأَكْبَر والأَصْغَر.   ج- لَحْظِيَّة غير المترادِف.
(33)- دُوْنَ وَعِي؛ فيكون المجمول : دون وَعي مِنَ الاِعْتِقَادي وبِوَعْيٍ من المُسْتَقْبَلي، فَيُوَازي دُوْنَ الوَعي والوَعي، اللاَّوعي العامّ الذي يَنْفَرِزُ فيه الوَعْيُ العامّ.
(34)- الوَضْعُ الماضي : وَضْعٌ غَيْرُ مُتَحَرِّكِ.    الوَضْعُ الماضَوِي : وَضْعٌ مُتَحَرِّكٌ.
          الوَضْعُ الماضي : فِعْلُهُ في نَفْسِهِ.          الوَضْعُ الماضَوِي : فِعْلُُهُ في غَيْرِ نَفْسِهِ.







-16-
الأَفْكَارُ
=======  
الأَفكارُ تنساب في هذا العالم وفي كُلِّ العوالم. فلا يُعْرَفُ من أَصدرها، ولا مَنْ تلقَّاها ولا من تَفَاعَلَ بها وتأَثَّرَ فيها. فلا حارسٌ لكلِّ فكر، ولا مصاحب لكلِّ لَمْحَة، ولا مرافق لكلِّ عبارة.
فقد يدَّعي البعض أَنَّ هذه هي أَفكاره وأَنَّ شُقَفًا (35) من التصوُّرات هي من سجيَّته، وأَنَّ الكلمات عائدة إِلى قريحته. فلا تأْكيدٌ ولا مُؤَكَّدٌ، ولا يُعْرَف بالتمام من أَصدر الأَفكار وتأَثَّر بها وأَضاف إِليها وعَبَّرَ عنها وعَلَّلَ فيها واستنتج منها واستنبط معها ومَحَّصها وسوَّاها ونشرها واِمتلأَ بها  وعُرِفَ بواسطتها ومِنْهَا .
هي صُعُوْبَةٌ وبَلِيَّةٌ تأْخذ بمجمع قُلوبِ من جَهَدوا وكافحوا وناضلوا ورأُوا بنات أَفكارهم تُؤْخَذُ وتُنْسَبُ لغيرهم ويتناقلها الناس ويعتقدونها نتيجة جهد من ناموا هنيئًا فيما كان السُّهاد مصاحبًا من أَقام أَو ثُبَّتَ العبارة. 
وإِن كانت القوانين تطالب بالتحقيق والبحث والتمحيص عن كلِّ خالق نصٍّ  ومبدع فكرة، فكيف للمحقِّقين أَن يتغلغلوا بين ثنايا  النَّاس ويرافقوهم في ليلهم وصبحهم، في مسائهم ونهارهم ليتسمَّعوا إِلى كلّ كلمة تُقال، وليتأكَّدوا من كلِّ نصٍّ يُكتب؟!
وهَلْ ما يصل إِلى الطَّبع ويظهر على صفحات المجلاَّت والجرائد والكتب هو الأَفكار بِكُلِّيَتِهَا والأَقوال بتمامها والعبارات بِحَيْثِيَّاتها؟.
فَكَمْ من فكرة لا تجتاز إِلى البرهان المطبعي، وكم من كلمة تُقال وتضيع بين عجقة السامعين ورَحَى الحياة المستمِرَّة المتوالية ؟ وكم من مًسْتَغِلٍّ له مُقَدَّرات ماليَّة واقتصاديَّة يَجْمَعُ لنفسه الأَفكار والعبارات والصِّيَغِ العقائديَّة أَوِ السياسيَّة أَوِ الفلسفيَّة وينسبها له. فلا برهان حسِّي أَنَّهَا ليست منه ولا بَيِّنَة واضحة اَّنَهُ  استولى عليها في بوتقة من الأَصدقاء يتحاورون، أَو في حلقة من الأَصحاب يتناقشون، أَو لدى استفساره عن بعض الأُمور من مُثَقَّفين مَغْمورين أَو لدى قراءَته نصًّا غير منشور.
_________________________________  
(35)- الشَّقْفَةُ جُزْءٌ غير مُحَدَّد في أُكْمُوْلَةٍ ما.




-17-
إِنَّ الأَفكار والكتابات التي اسْتُوْلِيَ عليها في التاريخ الأَدبي والفكري لَهِيَ كمٌّ هائلٌ، إِن عُرِفَ حجمه لتبدَّلت الكثير ممن المعطيات وتحوَّل الناس عن كثيرين من أَدعياء الفكرة والتنظير والعَقْدَنَة إِلى من هُمْ بالفعل أَصحاب الفكرة والتصوُّر والرُؤْيا، وإِلى من جَهدوا وكدُّوا وناضلوا في سبيل عبارات مُعَبِّرة وأَفكار مرصوصة خلاَّقة ومنهجيَّات واضحة سَلِسَة وانقلابات مفهوميَّة تُبَدِّلُ من نظرة الإِنسان إِلى الواقع التحليلي والفلسفي والتَّاريخي والسياسي. ولكن كلّ هذا ضائع الآن بمعظمه لعدم تمكُّن عِلْمِ الرَّصد من مواكبة ما صدر عن الأَنفس والقلوب، وعن العقول المستفردة، وعن أَصحاب المناهج الحُرَّة، وعن الواقفين ضدَّ التقليد الفكري والمنهجي والتصوُّري واللُغَوي، وعن الضعفاء من حيث المادَّة الماليَّة التي تُبْرِزُ بعض من لا يستحقّ لكنه محاط بأصحاب الشأْن السياسي أَو الثقافي التقليدي ومتداخل مع أَصحاب المنابر الفكريَّة الذين انقلبوا على من سبقوهم ثُمَّ تحوَّلوا إِلى أَعمدة ملح لا يذوبون في الماء، ولا يتركون غيرهم يتفاعل مع لواعج الطبيعة.
ويعتقد البعض أَنَّ هذا المنوال على استمرار، وأَنَّ من تحالفوا مع سلطة المال وسلطة التقليد هم إِلى نجاح دائم وَتَبَوُّءٍ مُتَوَالٍ وتعاظم مستمِّر. إِلاَّ أَن الدينونة الجديدة ستفتح الحقائق على مصراعيها وتُعْلي الكوامن  على أَسنَّة الرِّمح. فيصار إِلى العودة إِلى  أَهل كُلِّ فكرة، ومن أَين أَتت، وكيف سارت، ومن أَثَّر بها وتأَثَّر؛ وإِلى كلِّ عبارة، وكيف صدرت، وكيف تحوَّلت وإِلى ماذا وصلت. فكلٌّ يُعْطَى حقَّه؛ وقد يَعْجَبُ البعض إِذ يَكْتَشِف أَنَّ جهوده قد أَينعت أَكثر ممَّا تصوَّر، ويُفاجأُ البعض الآخر أَنَّ ما اعتقده فتحًا عظيمًا لم يقترب من الحقيقة بقدر ما احتسب، إِنَّما كان قولبة كلام ونمنمة بلاغيَّة ظلَّت دون الاكتشاف الفكري المحرِّك والمنهج النظري المُبين.
إِنَّ  الأَحكام الصادرة الآن عن العالم الأَوَّل لا تَحوط الموضوع بأَكمله لأَنَّ أَجهزة التغلغل الفكري لا يمكنها معرفة كلّ ما ينتج عن العقل الإِنساني وما ينضج من تخيُّلات وتصوُّرات  واستمراءات . فالبرهان الكلامي يكتفي بشاهد أَو ينقل أَقوال عن كذا وكذا، والبرهان الخطِّي يستند إِلى وثائق ظاهرة أَو مجلوبة، ويغفل الوسائل المُتْلَفَة أَوِ المُخَبَّأَة أَوِ الضائعة. أَمَّا تحقُّق وسائط المستقبل، فلا يترك شيئًا مِمَّا مَرَّ في الماضي؛ فلا فكرة تَفْلُت ولا تَهَيُّؤَات فكرة، ولا تحسُّس يَبْقَى مجهولاً، ولا تصوُّر يكون مُهْمَلاً. فيرتاح كلُّ شخص إِلى أَنَّ حقَّه سيصله، وأَنَّ مساهمته في الفكر والفنِّ، وفي أَيِّ نشاط بِنائي أَو تَحَوُّلي أَو استكشافي لن تُغْمَطَ في سجلِّ الانجازات الإِنسانيَّة الكاملة.فما يَظْهَرُ الآن ليس إِلاَّ جُزْءًا ممَّا قامت به الإِنسانيَّة واستنبطه الأفراد. فوسائل التحقُّق عن الماضي قليلة، تستند إِلى أَثر وُجِدَ هُنَا، ومُلْحَقَة استُكْشِفَت هُناك، ووثيقة خُلِّصت من التلف أَو الحريق أَو الضياع، أَو حديث  عن حديث عن حديث، وما شَوَّه المُشافهة من أَغراضٍ ومقاصِدَ ومزاعِمَ.
نظرة المستقبل هي الفاعلة وهي الداحضة وهي الواعية. فَلْتُعَلَّقْ الأَحكام بانتظار اليوم المنشود حيث سيتمكَّن المرء من معرفة كامل القوانين الطبيعيَّة، فيَفْهم عندئذٍ ما جرى وما كان، ويرسم خطَّة متكاملة متوافقة مع المعطى الأُنطولوجي ومع القوانين التَّكْوِيْنِيَّة، وذلك لأَفضل تَسْيَارٍ (36) ممكنٍ ولأَفضل خُطَيْطَة (37)، وذلك لتفعيل تقدُّم الماضي المُسْتَعَاد (38) عَبْرَ تأْثيرات تُطِلُّ من الماضي وتُؤَثِّرُ على الحاضر وتَصِلُ إِلى المستقبل (39). إِنَّ حركة الماضي تُسْتَعَادُ في خُطَّة مُعَيَّنة لِتُحَوِّلَ الماضي النَّظَري إِلى أُفْعُوْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ هي نتيجة تخطيط المستقبل والتقاءِه مع قوانين الأُنطولوجيا ومع التحسُّسات الصادرة في الماضي – المُضَارِع (40)، وفي المضارع – المُسْتَقْبَل (41).
-18-
_________________________________   
(36)- السَّيْرُ المُخَطَّط وفق العلوم الأُنطولوجيَّة، وفي سبيل أَفضل عيش ممكنٍ للإِنسانيَّة.
(37)- الخُطَّة العامَّة المستنِدَة إِلى معرفة القوانين الأُنطولوجيَّة وإِلى دراسة واعية ومنطقِيَّة لوقائع التاريخ الإِنساني والتكويني.
(38)- يُصار إِلى التأْثير على الماضي عَبْرَ التَكْتُوْنَة الفوتونيَّة، ليس لتبديله ممَّا كان، ولكن لتثبيت المُعْطَى التَّاريخي الماضي الذي هُوَ نتيجة إِلزاميَّة للمُعْطَى الذَّاتي وَلِتَحَرُّكِ المستقبل رقم ثلاثة والمستقبل رقم أَربعة.
(39)- إِنَّ الماضي النَّظَري هُوَ الماضي في حالة إِمكانِيَّة، والماضي التطبيقي هُوَ الماضي الذي أَصْبَحَ حَيْثِيَّة تاريخيَّة بعد الخُطَيْطَة المرسومة في المُسْتَقْبَل والتي تداخَلَتْ ضمن حركة جَدْلَجِيَّة مع الماضي النَّظري أَثناءَ تطبيقه. فيكون الماضي الفِعْلِي هُوَ الناتج عن إِحْدَى الإِمكانيَّات النظريَّة الأُنطولوجيَّة التي فازت على غيرها من الإِمكانيَّات بسبب تلاقيها مع التكتيل الفوتوني المُرْسَل من المستقبل إِلى الماضي.
(40)- الماضي-المُضَارِع : حركة من الماضي إِلى الآن نتيجة إِلْتِقَاء الماضي النَّظَري والتَّكْتُوْلَة المُسْتَقْبَلِيَّة.
(41)- الماضي-المُسْتَقْبَل : حركة من الماضي إِلى المستقبل نتيجة إلتقاء النَّظَري والتكتولة في سَبيل الحلِّ الأَفضل والأَنْسَب وفق المُمْكِنات الأُنطولوجيَّة.











-19-


المحتويات
=====
1- الفَصلُ الأوَّل : اللُّعبة التَّاريخيَّة.
2- الفَصلُ الثَّاني : نَاسُ العالَمُ الثَّاني.
3- الفَصلُ الثَّالِث : أخلاقِيَّاةُ العالَمُ الثَّاني.
4- الفَصلُ الرَّابِعُ : الانتِقال.
5- الفَصلُ الخامِسُ : الدِّيانَنتُ.
6- الفَصلُ السَّادِسُ : الأَفْكَارُ.
* * *

Aucun commentaire: